يتفق كثير من الدارسين في العالم لأوضاع ما بعد الثورات، على أن معظم المشكلات شديدة التعقيد التي تشكل تحديات لأنظمة ما بعد الثورة، سببها أن تترسخ في تفكير أي مجموعة تؤول إليها سلطة الحكم، عقيدة تجعلها تؤمن إيماناً لا يتزعزع بأن إصلاح الحال والتغيير للأفضل لا يتم إلى بيدها، ومن خلالها ه،ي ويكون ذلك أول تعارض مع معنى الثورة الشعبية ودعاوى قيامها .
ولما كانت الثورات هي فعل مجتمعي لا تنتفض لها الشعوب مدفوعة بمطلب واحد، أو بضعة مطالب، وإنما بدافع من تراكمات أوضاع مسّت كل شيء في حياة الناس، من الطعام إلى التوظف والعلاج والأمن والكرامة ومكانة الدولة وغيرها، وأن الثورة لم تكن حدثاً وليد يومه، لكنها آخر حلقة في سلسلة أحداث متتابعة،ترفض النظام القائم، وتعمل على إيقاظ الحس الوطني وتهيئة المناخ لانتفاضة جماهيرية عامة، لذلك فإن عقيدة: »نحن الأفهم والأعلم والأصلح« تعد انسلاخاً عن الروح المجتمعية، ومدخلاً إلى صناعة التحديات والمشكلات، ليس فقط للحكم، بل أيضاً للدولة ككل .
ولو حدث ذلك مع اختلاف صوره التي كانت أصل المحنة لتجارب دول من بعد ثورات، فإنه يعني التقهقر بالدولة على وضعية القبلية، أو على الصورة المعاصرة لها وهي الشمولية، وهي فلسفة أيديولوجية، كان أول ظهور لها في إيطاليا عام ،1923 في عهد الحكم الفاشي لموسوليني، والتي اتخذت صوراً ومسميات أخرى بعد ذلك، كالنازية والشيوعية . وكلها تلتقي حول توجه متماثل، حتى إن اختلفت مع بعضها بعضاً، هو ما تؤمن به من أن مهمتها تغيير قيم المجتمع، وسلوكات أفراده وطرق تفكيرهم، بناء على ما تراه أيديولوجيتها، وما يحق لها أن تفرضه على الأفراد والمجتمع .
نحن نعيش في عالم متغير، انزاحت فيه الفواصل بين الحدود التقليدية للدول، وصارت الشعوب ترى بعضها، وكأن كل شعب ينظر إلى الآخر، من نافذة بيته فيرى الآخرين عن قرب . حدث ذلك بدخول العالم عصر ثورة المعلومات، وما أبدعته العقول، من وسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة، من شاشات القنوات التلفزيونية الفضائية في البيوت، وأدوات الفاكس، والتلفون المحمول وغيرها .
ولكل زمن متغيراته التي تنقل الشعوب من ظروف معيشية إلى ظروف مختلفة، وهو ما يُلقي بتأثيراته على عقلية البشر، وعلى المزاج النفسي للمواطنين في أية دولة . وإذا لم تستوعب أنظمة الحكم هذه المتغيرات، وترتقي بتفكيرها إلى مستواها، فإنها تتجمد، وتجمد معها الدولة التي تحكمها، وتعوق قدرات الشعوب على أن تتقدم وتنهض، وتنعم بالسعادة، باعتبارها من أولى وظائف أي نظام حكم .
من هذه الزاوية، يمكن لعين المراقب أن ترصد حال الدول، ما انطلق منها قوياً عفياً إلى آفاق التقدم، ومن تعثرت خطاه، وهناً وضعفاً، وبقي حائراً، لا يدرك، ما هي مشكلته، وما هو السبيل إلى حملها .
ولأننا في مصر نعيش مرحلة انتقالية، لم تتحدد فيها ملامح الطريق الذي ينقلها إلى وضع مستقر، فإن النظرة إلى هذه الحال، تدفع بالضرورة إلى توسيع أبعاد الرؤية، لترصد وضع مصر، بالنسبة إلى ما يجري فى عالم، هي بالضرورة جزء منه، تتأثر به، وتؤثر فيه إذا امتلكت الإرادة لذلك .
في إطار هذه الرؤية، تلمح العين شيئاً لافتاً للنظر، يعبر عن الكيفية التي تتصرف بها دول في هذا الزمن المتغير، حين استوعبت معنى التغيير الجاري في العالم .
ففي أكتوبر ،2010 عقد المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الحاكم في بريطانيا، ويومها قال جون أوسبورن وزير الخزانة أمام المؤتمر، إن الطبيعة البشرية قابلة للتطور، وإذا لم تكن النظريات والسياسات التي تتبعها الدولة، تعبر عن البشر، فعن أي شيء تعبر؟
العالم يتغير، والعصر الذي نعيشه هذه الأيام اختلف عما كان . وصارت أنماط التفكير التي سادت طويلاً من قبل، قيوداً تكبّل العقل والفكر والحركة .
في العام ،1989 تتابع تساقط أنظمة الحكم الشمولي بداية من أوروبا الشرقية، واعترفت قيادات هذه الدول، بأن عنصر الأيديولوجية كمحرك للسياسات قد غربت شمسه، وأن السياسات ستحركها من الآن اعتبارات المنفعة والمصالح .
ونتيجة لهذا التبديل لعناصر صناعة السياسات، كان لابد بالتبعية، أن تتغير الأفكار والنظريات السياسية التي كانت تعبّر عن العصر الذي سبق، واستنبطت من الواقع القائم، ومن بينها أن الديمقراطية لم تعد مجرد شكل للنظام السياسي، لكنها مدلول اتسع ليشمل مكونات أخرى، تتعلق بخطط التنمية الاقتصادية، والارتقاء بمهارات البشر، وتأمين الأمن القومي، ودولة القانون، وضمانات مكانة الدولة في الداخل، ومكانتها ونفوذها إقليمياً ودولياً
ولأن هناك دولاً صغيرة خاصة في آسيا، ثم بعد ذلك في أمريكا اللاتينية، أخضعت التحولات في النظام الدولي، للبحث والدراسة، من جانب الخبراء والعلماء المختصين، فإنها وضعت أيديها بسرعة على مفاتيح النظام الدولي الجديد، وسلكت دروبه، مما أتاح لها تحقيق تقدم اقتصادي، مبهر في أقل عدد من السنين .
كان خلاص هذه الدول من أسر الأيديولوجيات المقيدة للعقل والتي تقيم حاجزاً بينها وبين التطورات الحضارية المتسارعة في العالم، هو المصدر الرئيس لقدرتها على الانطلاق خارج أسوار التفكير التقليدي الذي لم يعد يستقيم الأخذ به في عصر ثورة المعلومات، والذي صارت فيه المعرفة الإنسانية، تعادل أضعاف هذه المعرفة قبل سنوات قليلة مضت .
- مقتبسة من مجموعة مقالات لعاطف الغمرى -
No comments:
Post a Comment